رياضة

الفانتازي: لعبة نلعبها أم لعبة تلعب بنا؟

ما مدى تأثير لعبة فانتازي الدوري الإنجليزي الخيالية على اللعبة الحقيقية، وكيف غيرت من نظرة شريحة واسعة من الجمهور، وانطباعاتها النفسية والذهنية عليهم؟

future صورة تعبيرية: Fantasy Premier League

لم تكن خسارة أستون فيلا أمام ليستر سيتي بهدفين لهدف في موسم 2020-2021 لتثير اهتمام أحد، لولا عدم مشاركة متوسط ميدان أستون فيلا آنذاك جاك غريليش بداعي الإصابة، ولم تكن إصابة غريليش بدورها لِتثير اهتمام أحد، لولا أنها ارتبطت بلعبة الفانتازي.

تعرض غريليش لإصابة في التدريبات السابقة لتلك المباراة، وكتم مدرب أستون فيلا وقتها، دين سميث، الخبر، لئلا يمنح منافسه تفوقاً ذهنياً، ولكي يربك خططه بمفاجأة غياب غريليش. نجحت خطة التكتم تلك حتى ساعات قليلة، قبل الموعد النهائي لتعديلات الجولة في الفانتازي.

وصل همسٌ خفيف بشأن تلك الإصابة إلى أحد لاعبي الفانتازي؛ فنشر المعلومة وانتهى الأمر. لكن معلومة كتلك لم تكن لتمر مرور الكرام على المُهوَّسين باللعبة؛ فبدأت رحلة البحث.

استطاع أحد أولئك المُهوَّسين الوصول إلى حسابات عدد من لاعبي فريق أستون فيلا عبر اللعبة وهم: مات تارجيت، نيل تايلور، كونور هوريهان؛ والاطلاع على تشكيلاتهم، فخمِّن ماذا وجد؟

لقد قام الثلاثي ببيع غريليش قبل بداية الجولة، مما يؤكد الشكوك حول الإصابة التي تعرض لها. ولم تتوقف عملية التقصِّي عند هذا الحد؛ بل وصل الهوس حد البحث والوصول لحسابات أحد محللي الأداء في الفريق سكوت آدي لينفورث، واختصاصي العلاج الطبيعي روب مارشال؛ ليجدوا أنهم أيضاً باعوا غريليش.

تلك الواقعة وغيرها من الوقائع المتواترة التي تحمل الطابع نفسه، المرتبطة بشكلٍ وثيق بلعبة الفانتازي؛ تثير تساؤلات حول تأثير اللعبة الخيالية على اللعبة الحقيقية، الفانتازي على كرة القدم، وكيف غيَّرت من نظرة شريحة واسعة من الجمهور للعبة، وانطباعاتها النفسية والذهنية عليهم.

كيف بدأ الخيال؟

تماماً كأي نموذجٍ تجاري أو نشاطٍ ترفيهي منظم؛ لم تُولد لعبة الفانتازي من العدم، بل كانت هناك إرهاصات ومحاولات تعود بداياتها لعقود بعيدة، بعضها لم يكن ضخماً أو واسعَ الانتشار، وبعضها لم يكن داخل القارة الأوروبية ودورياتها الكبرى، وبعضها لم يكن له علاقة بكرة القدم من الأساس.

في كتاب «إهدار الوايلد كارد: منهج الفانتازي وجنونه -Wasting Your Wildcard: The Method and Madness of Fantasy Football» يتتبع الكاتب ديفيد ورديليد بعضاً من تلك الإرهاصات التي ظهرت في أمريكا مع خمسينيات القرن الماضي، والتي بدأت بالأساس كلعبة مرتبطة بكرة القدم الأمريكية.

سنوات طوال وجهود حثيثة، تدرجت على إثرها اللعبة شيئاً فشيئاً من نشاطٍ يمارسه مجموعات منعزلة من الأفراد، حتى وصلت للشكل الحالي حيث يُقدَّر عدد المشاركين في نسختها الرسمية فقط زُهاء 10.9 مليون مدرب حول العالم، بنهاية الموسم الماضي.

كانت إيطاليا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي واحدة من المحطات المهمة، تم ذلك على يد الصحفي التقني الإيطالي ريكاردو ألبيني، الذي تأثر أثناء وجوده في أمريكا بأحد الكتب التي تشرح قواعد وإحصاءات خاصة بلعبة فانتازي كرة القدم الأمريكية، وعزم على أن يُنشئ نسخة إيطالية منها خاصة بكرة القدم.

تُوِّجت جهود ألبيني بنجاح حين أصدر كتاب «فانتازي الكالتشيو - Fantacalcio» عام 1989، وبلغ عدد المدربين 15 ألف مدرب بعد سنة واحدة من إصداره، أُضيف لهم ما يقارب 70 ألفاً من المدربين حين تم التعاون بين ألبيني وجريدة لاجزيتا ديلو سبورت.

ويمكن القول إن النسخة الحالية من «فانتازي البريميرليج – FPL»، التي هي امتداد لجهودٍ بدأها رجل الأعمال البريطاني أندرو وينشتاين عام 1991، مرَّت بمسارٍ مشابه لنسخة ألبيني. غير أن وينشتاين قد تأثر بنموذج فانتازي البيسبول وأنشأ منه نسخةً كروية، تلعبها مجموعاتٍ صغيرة بقوانين مختلفة تماماً عن القوانين الحالية، حتى تم تعاون مشترك مع جريدة التلغراف البريطانية لإصدار نسخة للجمهور على صفحاتها عام 1994.

دخلت اللعبة عصر الإنترنت، وصار لاعبوها بالملايين، ونالتها يد التغيير والتنقيح فيما يخص المنافسة والمكافأة، حتى صارت إلى الشكل الحالي الذي نعرفه جميعاً، وبعد أن كانت لعبة نلعبها، صارت لعبة تلعب بنا.

الخيال يتحول إلى جنون!

في رواية «أسبوع من ديسمبر - A Week In December» للكاتب البريطاني سيبستيان فولكس، نجد حضوراً لـ «فين» المُهوَّس بلعبة فانتازي كرة القدم. يحصل فين على امتداده الواقعي من معايشة فولكس لحياة أحد أبنائه، الذي وجده يوماً أمام التلفاز يتابع مباراة بلا اكتراث، بينما تركيزه منصبٌّ كلياً على اللابتوب ومتابعة فريقه في الفانتازي.

يدون فولكس ملاحظاته حول ذلك المشهد، ويقول: «لقد أصبحتْ لعبة كرة القدم الخيالية أكثر أهمية من اللعبة الحقيقية المبنية على أساسها، وأصبحتُ أعي تلك الرغبة في أن نعيش حياتنا بمعزل عن الواقع».

تنبأ فولكس عام 2009، وقت صدور الرواية، بمصير رآه حتمياً لتلك الحالة من الهوس البائس؛ فقد انتهى المطاف بفين المسكين في إحدى المَصحَّات النفسية، حزيناً، محطماً، لا يحفل به أحد.

عام 2021، بعد 11 عاماً من صدور رواية فولكس، أجرى الدكتور لوك ويلنكس، الخبير في علم النفس الرياضي والتدريبات الرياضية، دراسة بحثية مع زملاء متخصصين من جامعة ترينت نوتنجهام. تطرقت للصحة النفسية والسلوكية للاعبي الفانتازي، ونُشرت الدراسة في مجلة السلوك البشري والتقنيات الناشئة.

أُجريت الدراسة على عينة من لاعبي الفانتازي بلغ عددهم 1995 من 96 دولة مختلفة، يتفاوتون فيما بينهم في درجة الهوس باللعبة والوقت الذي يخصصونه للعب وإعداد الخطط والبحث والتفكير فيها بشأن عام.

ومن بين الذين يقضون 45 دقيقة في اللعب، وأكثر من ساعة في البحث المتعلق باللعبة، وأكثر من ساعتين في التفكير في اللعبة خلال اليوم؛ هناك 44% منهم يعانون من درجات متفاوتة من اختلال المزاج.

أما المستخدمون المتطرفون، الذين يمضون أكثر من ذلك الوقت في اللعب والبحث والتفكير؛ فقد أقر 34% منهم بأن اللعبة قد سببت لهم حالة من القلق المرضي، واعترف 37% منهم أن اللعبة قد خرَّبت عليهم حيواتهم وأصابتهم بخلل وظيفي، الأمر الذي ينطبق أيضاً على حوالي 14% من مستخدمي اللعبة بشكل عام.

يمنح ويلنكس تلك النتائج بُعداً أكثر إبانة عن الخصائص المميزة للفانتازي، كونها لعبة لا يمكن الفوز بها على الأغلب، مما يدفع البعض للاعتقاد أن بذل المزيد من الجهد والوقت والفكر سيزيد من حظوظهم في الفوز، مما يجعل الخسارة أشد وطأة.

تشترك الفانتازي في ذلك البعد النفسي للخسارة مع ألعاب الفيديو الأخرى مثل FIFA، لكن الفارق أن لعبة الفانتازي ينتفي منها أي دور للاعبين في النتيجة النهائية؛ إذ يكون الفوز والخسارة مُرتَهنين فقط بما يحدث في الواقع على أرض الملعب، مع الأخذ في الاعتبار المُسلَّمةَ النفسية بأن فقد السيطرة والتحكم في النتائج، من عوامل الخطر المؤثرة على الصحة النفسية.

ولكن ألا تستحق لحظات التفوق إلى شيء من الجنون؟

الخيال الذي غلب الواقع

عُرف عن الأمير عبد الله بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود متابعته الشغوفة لكرة القدم ولعبة الفانتازي بشكل خاص، حتى إنه قد حل في المركز 194 على مستوى العالم من بين 2.6 مليون مدرب موسم 2012-2013.

في حواره مع الديلي ميل، يذكر الأمير عبد الله أنه اتصل بصديقه الأمريكي جورج جيليت، أحد مُلاك نادي ليفربول آنذاك، ليعرف إن كان قائد الفريق ستيفن جيرارد سيلعب أساسياً في إحدى الجولات أم لا!

بالطبع لم يكن يطمع الأمير عبد الله في الكوب الحراري الذي يحصِّله صاحب المركز الأول، فنحن نتحدث عن مالك نادي شيفلد يونايتد وأحد أفراد العائلة المالكة في المملكة العربية السعودية.

ولكن شأن الأمير في ذلك شأن الخفير وشأن العامة من محبي اللعبتين الواقعية والخيالية، الذين يغريهم الجنون الذي يسبق النشوة أو يعقبها. وهذا تحديداً ما دفع لوك ويلنكس – إن كنت تقرأ باهتمام؛ فأنت تعرف ذلك الاسم جيداً - أن يعود في عام 2023 بدراسة تقوم على الاستكشاف النوعي لتجارب لاعبي الفانتازي الإيجابية والسلبية؛ ليثبت أن إيجابيات تلك اللعبة تطغى على سلبياتها، وأن نشوة المقامرة الصحيحة، والمراهنة على تألق لاعب مغمور لا تحوزه إلا ندرة من المدربين، والتنافس الطفولي مع الأصدقاء، كل ذلك يقوِّي الروابط الاجتماعية بين الأصدقاء ومع الآخر الذي لا نعرفه تماماً، كما يعزز من الانغماس في الرياضة كنشاطٍ جسدي وذهني مفيد، وبالطبع الجوائز المادية التي قد يحصِّلها الفائزون في نهاية كل جولة أو في نهاية المسابقة ككل.

شخصياً، أملك قصةً تحمل دلالةً مشابهة، وقد حدثت الموسم الماضي حين أوقعتني قرعة كأس الفانتازي أمام خصم لا أعرفه ولا يعرفني، وهو الطبيعي، لكن هذا الشاب قرر البحث عن الغريب الذي هو أنا، وصلتني منه رسالة يستفسر فيها إن كنت خصمه فعلاً أم لا، ولست أدري كم استغرقه ذلك من وقتٍ وجهد. تناقشنا طوال الجولة كخصمين شريفين، سبقني وسبقته، لكني انتصرت في النهاية، ثم تبادلنا الضحكات والنصائح كصديقين قديمين، ومضى كلٌّ إلى غايته.

# الدوري الإنجليزي # ألعاب # فانتازي

الكثير من جوارديولا لا يضر: هل أسكت الفيلسوف مدرجات البريميرليج؟
تحديات كرة القدم: كيف نحكي علاقتنا بالكرة في 30 ثانية؟
على خُطى WWE: هكذا ستكون كرة القدم عام 2045

رياضة